الشرق الأوسط- سلام هش لإسرائيل أم سراب الكأس المقدسة؟

تطمح الولايات المتحدة إلى شرق أوسط ينعم بالثبات، لكن سياساتها غالبًا ما تؤدي إلى عكس ذلك، حيث تساهم في تفاقم الاضطرابات. لطالما راودها حلم تحقيق "السلام الدائم"، الذي يتجسد في استكمال مسيرة التطبيع عبر الاتفاقات الإبراهيمية، وهو ما وصفه يائير لبيد، زعيم المعارضة الإسرائيلية، بأنه "الكأس المقدسة" في مقال له في صحيفة هآرتس.
ويبدو أن تحقيق هذا الهدف المنشود يزداد صعوبة مع تنامي نفوذ التيارات اليهودية المتطرفة، كما يرى لبيد.
وبعد مرور أربعة عقود على معاهدة السلام مع مصر، يتساءل المثقفون الإسرائيليون عن جدوى هذا "السلام البارد"، الذي تحول إلى وضع أكثر خطورة. فقد أبدت إسرائيل مؤخرًا تحفظات بشأن التعزيزات العسكرية المصرية في سيناء، وسبق أن وصفت ثورة 25 يناير/ كانون الثاني بـ "الوباء المصري".
وفي سياق النقاشات الدائرة حول النشاط العسكري المصري في سيناء، صرح تامير موراج، المراسل الدبلوماسي للقناة 14 الإسرائيلية، مطلع هذا الشهر قائلاً: "على قادتنا أن يكونوا على أهبة الاستعداد. فبينما نحن غافلون، وتحت غطاء اتفاقية السلام، تقوم مصر بتشكيل جيش ضخم يعتمد على أسلحة أميركية، وتجري تدريبات تحاكي سيناريوهات غزو إسرائيل. إنها قوة بحرية وجوية قادرة على تحدي سلاح الجو الإسرائيلي. هذه القوة العسكرية الهائلة، التي تنتهك اتفاقات كامب ديفيد مرارًا وتكرارًا، تتدرب لهدف واحد: الحرب مع إسرائيل".
الأمر المؤكد هو أن إسرائيل، التي تعتبر حصنًا للغرب، تأسست في ظل ظروف استعمارية معقدة، وأن التحديات تتراكم من حولها. لا يوجد حل سحري في الشرق الأوسط، حتى ذلك السلام الفاتر مع الدولة العربية الكبرى يوشك أن يصبح سلامًا محفوفًا بالمخاطر، سلامًا يستعد لغزو الجار، على حد تعبير القناة 14 المعروفة بميولها المتطرفة وارتباطها باليمين.
إن الاستخفاف بقضايا الشرق الأوسط أصبح سمة مميزة للسياسة الغربية، التي اتخذت منحى دينيًا وترى في الدولة الإسرائيلية قضية مقدسة، بعد أن كانت تعتبرها "حصنًا غربيًا" كما تصورها كونراد أديناور، مؤسس ألمانيا الحديثة.
القول بأن المقاربة الغربية للصراع العربي الإسرائيلي قد اتخذت بعدًا دينيًا ليس ضربًا من التكهنات، بل هو واقع ملموس. ففي يونيو/ حزيران 2001، دُعي بيل كلينتون للاحتفال بإطلاق كتاب "كيف تخوض حربًا حديثة" للجنرال ويسلي كلارك، القائد السابق لحلف الناتو، وذلك بعد نصف عام من مغادرة كلينتون للبيت الأبيض وعام كامل على انهيار مفاوضات كامب ديفيد.
وخلال ساعة كاملة، تحدث كلينتون لأول مرة عما جرى في المفاوضات، محملاً عرفات مسؤولية انهيارها بسبب تشكيكه في "الحقيقة التاريخية" التي تزعم وجود الهيكل اليهودي أسفل المسجد الأقصى وقبة الصخرة وحائط البراق.
بالنسبة لكلينتون، كان هذا التشكيك أمرًا غير مقبول، وصرح للحاضرين قائلاً: "أخبرت عرفات أنني أعلم بوجود الهيكل في الأسفل". والأكثر من ذلك، فقد نقل إيهود باراك، رئيس الوفد الإسرائيلي، أن كلينتون انتفض في وجه عرفات وصاح قائلاً: "أخبرني القس سولومو وأنا طفل في نيويورك أن الهيكل موجود تحت المسجد". وقبل مغادرة الحفل، قال كلينتون للحاضرين: "أعتذر، لقد أفسدت ذلك الشيء في الشرق الأوسط"، كما ذكرت مجلة نيوزويك في حينه.
إن الغرب برمته، مدفوعًا بمعتقدات دينية استعمارية، يعمل على إفساد "ذلك الشيء" في الشرق الأوسط، ولم يكن كلينتون استثناءً. فالمجازر المستمرة في غزة كشفت عن رؤية غربية للصراع تتمحور حول القصص الدينية. حتى النخب الثقافية الغربية انخرطت في هذا الخيال الديني، ولم يعد مستغربًا أن نرى مفكرين مرموقين مثل نيال فيرغسون، الذي يصف نفسه بالملحد، يتحدث عن "المهمة الإسرائيلية فائقة النجاح" في غزة، زاعمًا أن "تلك الأرض" هي هبة إلهية لليهود.
الشرق الأوسط منطقة جيوسياسية معقدة تتصارع فيها ثلاث رؤى، كما يرى الباحث الإسرائيلي عاموس يلدين: رؤية المقاومة الفلسطينية (حماس)، والرؤية الإيرانية، والرؤية الأميركية.
لا يوجد إجماع عربي حول قضايا الشرق الأوسط، لا في الماضي ولا في المستقبل، بل هناك تصورات وأحلام متضاربة. ولا يزال تحقيق مشروع عربي متكامل يضاهي المشاريع الخارجية المتجانسة التي تنظر إلى المنطقة أمرًا بعيد المنال.
يرى يلدين أن الرؤية الأميركية تقوم على تحقيق الاستقرار في الشرق الأوسط من خلال استراتيجيات متعددة، تشمل خلق فرص سياسية للإسرائيليين والفلسطينيين، وتشجيع التطبيع، وإبرام اتفاقيات دفاعية بين واشنطن وبعض دول المنطقة.
لطالما كان السؤال الإسرائيلي هو سؤال الاستقرار، وهو ما تعكسه جميع المقاربات الأميركية للصراع. ففي نهاية المطاف، سيتعين على المجتمع الإسرائيلي أن يتجاوز سؤال البقاء إلى أسئلة أخرى لا تقل أهمية، مثل الاندماج مع الجوار.
إذ لا يوجد مثيل للعزلة التي تعيشها إسرائيل مع جيرانها. ولا تتجاوب إسرائيل بشكل كافٍ مع مبادرات الاستقرار الأميركية، ومع اتجاهها نحو اليمين، ستصبح استجابتها للرؤى والتقديرات الخارجية نادرة على نحو متزايد.
ذكر كيسنجر في مذكراته أن المسؤولين الإسرائيليين شكروه متأخرًا على التكتيكات التي حمت دولتهم خلال الصدام العربي الإسرائيلي في السبعينيات.
لم تكن الأبعاد الاستراتيجية لحلول كيسنجر واضحة للإسرائيليين في البداية، فقد اعتبروه أميركيًا أكثر من يهودي، ولم تكن العلاقة الحميمة بين إسرائيل وأميركا قد وصلت إلى المستوى الذي نشهده اليوم، حيث ترعى دولة عضو في مجلس الأمن عمليات إبادة جماعية على الهواء. وحتى في ظل هذه العلاقة الوثيقة، لا تزال إسرائيل تتمتع بهامش واسع لتمرير مشاريعها العدوانية، بما في ذلك تلك التي تتخذ أشكالًا إجرامية مروعة.
أما رؤيتا حماس والمحور الإيراني، فتختلفان وتتفقان. وجه الاتفاق يكمن في استنزاف إسرائيل وحشرها في موقع الدخيل. ويرى يلدين أن المقاربات الثلاث قد فشلت، بينما نجحت إسرائيل في فرض رؤيتها، حيث أدت العمليات العسكرية الإسرائيلية إلى سلسلة من النجاحات، بما في ذلك إضعاف النظام السوري وتقويض "الممر الممتد من غرب إيران إلى الحدود الإسرائيلية، الذي عملت إيران على بنائه لأربعة عقود".
لقد نجحت إسرائيل من خلال عملياتها العسكرية في تغيير "شكل" الشرق الأوسط على نحو غير متوقع، مما أدى إلى ظهور واقع جديد وغامض لا يزال غير مستقر ولا يمكن التنبؤ بمآلاته.
وبينما نجحت إسرائيل في إبعاد إيران عن حدودها، أصبحت الحدود التركية الآن على مشارف الدولة العبرية للمرة الأولى. ويتداول الكتاب الإسرائيليون النقاش حول "المفاجأة السورية" التي جعلت تركيا، ذات الثأر التاريخي، تجاور دولتهم. فكل تحرك في الشرق الأوسط يخلق تناقضاته، وكل إجابة تطرح أسئلة جديدة.
حتى وقت قريب، قبل ديسمبر/ كانون الأول 2024، كانت الثورة السورية مجرد ذكرى بعيدة. ولم تتجاوز طموحات الثوار ريف حلب، كما ذكر كمال أوزتورك، الصحفي التركي المقرب من المعارضة السورية، في مقال له على الجزيرة نت.
وتتوالى الأحداث في المنطقة، ليظهر شرق أوسط جديد وغامض يختلف جذريًا عما تصوره شمعون بيريز، مبتكر مصطلح "الشرق الأوسط الجديد" في التسعينيات.
وبينما تتجه القضيتان الفلسطينية واللبنانية نحو الهدوء، برز الملف السوري على شكل "هزة أرضية لم تحدث في المنطقة منذ اتفاقية سايكس بيكو عام 2016"، على حد تعبير نتنياهو أمام المحكمة المركزية. لا شيء ولا أحد يستطيع منع العواصف في الشرق الأوسط، أو التنبؤ بمسارها ومستقرها.
يقف الشرق الأوسط برمته على رمال متحركة، وسكونه المريب يثير الشكوك، وحركته المفاجئة لا تخضع لأي قواعد. وفي خضم هذا الغموض الوجودي، يُراد لإسرائيل أن تصبح كيانًا مستقرًا، وهي أمنية تنم عن خيال قاصر وأوهام خطيرة حول طبيعة الشرق الأوسط المتقلب.
ويبدو أن الحديث عن الشرق الأوسط الجديد يدور دائمًا حول إيجاد مكان آمن لإسرائيل في هذه المنطقة، بدلاً من فهم حقيقة الوضع الجيوسياسي في سياقه التاريخي.
إن الشرق الأوسط الذي يسعى لاستيعاب إسرائيل يضيق على نفسه وعلى شعوبه، ويصبح مكانًا طاردًا لسكان المنطقة الأصليين. فالجدران السياسية والاجتماعية في الشرق الأوسط ضيقة، وأدت التفاعلات السياسية في العقد الماضي إلى حروب أهلية مدمرة.
تسعى إسرائيل إلى مكان آمن في الشرق الأوسط، ولذلك بنت إستراتيجيتها على ثلاثة مبادئ: "الردع والإنذار المبكر والنصر الحاسم"، كما يرى الباحث الإسرائيلي أساف أوريون. ولطالما استخدمت إسرائيل سجل انتصاراتها الحاسمة لردع خصومها، وكانت تضرب الصغير بقوة لترهب الكبير، كما هو قانون "عنترة" في الصراع.
ومن خلال قدراتها العسكرية المتقدمة، حرصت إسرائيل على تحقيق انتصارات حاسمة داخل أراضي العدو، بعيدًا عن حدودها، مما جعلها تبدو وكأنها حقيقة جيوسياسية نهائية في الشرق الأدنى، وليست كيانًا استيطانيًا في منطقة مضطربة.
لكن مع نهاية كل معركة، تواجه إسرائيل حقائق جديدة غالبًا ما تكون أكثر تعقيدًا. وكلما ازدادت الأمور تعقيدًا، وعدت أميركا إسرائيل بـ "الكأس المقدسة"، التي تتخذ في كل مرة شكلًا واسمًا مختلفًا. فقبل أربعة عقود، كانت "مصر" هي تلك الكأس الغالية.
ومن الحقائق الجديدة التي واجهتها إسرائيل بعد انهيار نظام الأسد، هو أن إيران المحاصرة قد تلجأ إلى تسريع برنامجها النووي باعتباره الملاذ الأخير، كما حذرت صحيفة "جيروزاليم بوست". وإذا نجحت إيران في ذلك، فسيتعين على الإسرائيليين الهجرة، كما جاء في تقرير متشائم لصحيفة "يديعوت أحرونوت".
تبدو إستراتيجية الأمن الإسرائيلية أشبه بلعبة الدمى الروسية (الماتريوشكا)، فكلما أزاح اللاعب دمية، وجد تحتها دمية أخرى. وفي الواقع، هناك "كأس مقدسة" سهلة المنال: الدولة الفلسطينية. ولكن إسرائيل، المدعومة من الغرب ذي النزعة الدينية، اختارت طريق النار.
لا يمكن تحقيق الاستقرار من خلال المذابح. لقد جربت أميركا هذا الطريق مرارًا وفشلت فيه. وكان عليها، وهي تلعب دور الأم، أن تنقل إلى إسرائيل الدروس والعبر اللازمة، أو على الأقل أن تظهر لها نوعًا من "الحب القاسي"، كما نصح توماس فريدمان في صحيفة نيويورك تايمز في العام الماضي.